recent
اخر الأخبار

مستقبل أطفال التوحد بين التحديات والفرص بقلم د.عبد الحليم محمد

specialegypt
الصفحة الرئيسية

كيف نصنع مستقبلًا مشرقًا لأطفال اضطراب طيف التوحد 

يمثّل أي طفل بالنسبة لأبويه كنزًا وثروةً عاطفية وعقلية ومادية؛ فهو بذرتهم التي زرعوها، والتي يضحّون من أجلها بكل ما يملكون، لأنه يمثل لهم استثمار عُمرهم. 

لذلك نجدهم دائمًا في قلق مستمر على مستقبله، وهذا القلق شائع بين معظم الآباء إن لم نقل جميعهم.

لكن هذا القلق يتضاعف ويظهر بشكل أوضح لدى آباء وأمهات الأطفال المصابين بالتوحد أو ما يُعرف باضطراب طيف التوحد، لما يمثله هذا الاضطراب من تحدٍ حقيقي يعوق طريق طفلهم نحو النمو السليم والمستقبل الواعد.

ولا يزال العالم حتى اليوم ينفق أموالاً طائلة في أبحاث هذا الاضطراب لفهم أسبابه. ويكفي أن نشير إلى أن الولايات المتحدة وحدها ضاعفت ميزانيتها الفيدرالية المخصصة لأبحاث التوحد، لتتجاوز 100 مليون دولار سنويًا. 

كما تُنفق دول أوروبا ومختلف دول العالم أموالًا ضخمة لنفس الهدف، دون التوصل حتى الآن إلى السبب الحقيقي وراء حدوث التوحد.

ولهذا، لا عجب أن نجد مشاعر القلق والحيرة والحزن تتزايد لدى كثير من آباء الأطفال المصابين بالتوحد، وهم غالبًا ما يعيشون في تساؤل دائم لا يجدون له جوابًا شافيًا:

"ما هو مستقبل ابني حينما يكبر؟"

ويتفرع من هذا السؤال الرئيسي تساؤلات فرعية تؤرقهم، مثل:

"هل سيتعلم كإخوته أو أقاربه؟"

"هل سيحصل على وظيفة ويعتمد على نفسه؟"

"هل سيعيش حياته بشكل طبيعي؟"

"هل يوجد علاج شافٍ لاضطراب التوحد؟"

د. عبد الحليم محمد جالس فى مكتبه متحدثا عن مستقبل أطفال اضطراب طيف التوحد
دكتور عبد الحليم محمد استشاري تأهيل ذوى الإعاقة 


وفي هذه المقالة، بإذن الله، سنحاول الإجابة على كل هذه التساؤلات بوضوح وواقعية.

قلة الكتابات عن مستقبل أطفال التوحد

رغم كثرة الكتابات والمراجع التي تناولت موضوع التوحد، والتي قد تصل إلى ملايين الدراسات والأبحاث حول العالم، إلا أن هناك ندرة ملحوظة في ما يخص الكتابات المتعلقة بمآل أو مستقبل أطفال التوحد، سواء عالميًا أو في العالم العربي على وجه الخصوص.

وفي اعتقادي، ترجع هذه الندرة إلى سببين رئيسيين:

حداثة اكتشاف التوحد كتشخيص رسمي؛ إذ لم يمضِ على اكتشافه أكثر من 80 عامًا، وبالتالي لا يوجد عدد كافٍ من الأفراد المصابين بالتوحد ممّن تقدم بهم العمر، ليتاح تحليل مساراتهم المستقبلية بشكل علمي.

غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة حول عدد الأطفال المصابين بالتوحد، فضلًا عن ندرة الدراسات الطولية التي تتبعت حالاتهم من الطفولة حتى البلوغ.

ما المقصود بـ"المستقبل"؟

قبل أن نجيب على السؤال المتكرر لدى الأسر: "ما هو مستقبل طفلنا المصاب بالتوحد؟"

يجب أولًا على كل أسرة أن تحدد ما المقصود بكلمة "المستقبل" في نظرها. هل تعني:

  • القدرة على التواصل الجيد وتطور اللغة؟
  • أم التفاعل والتكيف الاجتماعي؟
  • أم النجاح في التعليم والوصول إلى مراحل متقدمة أكاديميًا؟
  • أم القدرة على الزواج وتكوين أسرة؟

فالفهم الواضح لمعنى "المستقبل" لدى الأسرة، يحدد طبيعة التوقعات والخطط المناسبة.

هل يوجد تحسن أو شفاء في المستقبل؟

تشير العديد من الدراسات إلى أن حدة السلوكيات السلبية لدى الأطفال المصابين بالتوحد غالبًا ما تتراجع مع التقدم في العمر، في حين تتحسن قدراتهم التواصلية والاجتماعية تدريجيًا.

كما تشير بعض الدراسات إلى إمكانية "الشفاء" الجزئي أو الكامل لدى نسبة من الأطفال. على سبيل المثال، توصلت دراسة أمريكية نُشرت في مجلة طب الأطفال إلى أن نحو ثلث الأطفال الذين تم تشخيصهم بالتوحد في سن مبكرة، اختفت أعراض التوحد لديهم عند الكبر.

تحسن أم شفاء؟

يرى البروفيسور البريطاني سايمون بارون كوهين، أستاذ العلوم النفسية بجامعة كامبريدج، وأحد أبرز خبراء التوحد في العالم، أن هناك بالفعل تحسنًا واضحًا وملموسًا لدى بعض الأطفال، لكنه لا يعتبره "شفاءً" تامًا.

وتتفق معه في هذا الرأي الدكتورة ديبورا فين من جامعة كونيتيكت الأمريكية، حيث ترى أن جميع أطفال التوحد قادرون على إحراز تقدم ملحوظ، لكن لا يمكن القول إنهم يشفون بشكل كامل.

كما تؤكد هذا الموقف الدكتورة جورجينيا جوميز، مديرة مركز البحوث في جمعية أبحاث التوحد البريطانية Autism Research Society، حيث ترى أن التوحد اضطراب مزمن يستمر مدى الحياة، ويمكن تحقيق تحسن كبير، لكنه لا يرقى إلى الشفاء الكامل.

اقرأ: العلاج بالأكسجين لأطفال التوحد نافذة أمل أم نقطة خلاف 

هل يتعلّم أطفال التوحد؟

رغم أن العديد من الدراسات والأبحاث أشارت إلى إمكانية تحسن أعراض اضطراب طيف التوحد مع التقدم في العمر، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

هل يؤدي هذا التحسن إلى تمكّن أطفال التوحد من التعلّم والتقدّم الدراسي مثل أقرانهم؟

تشير نتائج إحدى الدراسات التي تتبعت مسار بعض الأطفال المصابين بالتوحد البسيط إلى أن بعضهم أكمل دراسته الجامعية ويعيش حياة علمية ومهنية طبيعية نسبيًا، مما يعزز الأمل في قدرة بعض الأطفال التوحديين على تحقيق إنجازات تعليمية متميزة.

هل يمكن أن يعمل الأشخاص ذوو اضطراب التوحد؟

نعم، يمكن لبعض الأشخاص من ذوي اضطراب التوحد أن يتعلموا مهنة أو حرفة معينة تُدرّ عليهم دخلًا جيدًا، لكن الأمر يعتمد على عدة عوامل، أهمها:

  • وجود قدر كافٍ من الانتباه والتركيز.
  • توفر مهارات تواصل مقبولة.
  • امتلاك قدرات مهنية أولية تتيح لهم تلقي التدريب ثم العمل.

لكن في المقابل، قد لا يتمكن بعضهم من ممارسة المهن التي تعتمد بشكل كبير على التفاعل الاجتماعي والاتصال المباشر، مثل:

  • موظفي الاستقبال
  • موظفي الكول سنتر
  • وكلاء السفر
  • موظفي المبيعات

هذه المهن تتطلب مهارات لغوية واجتماعية عالية، وقد تُشكّل تحديًا كبيرًا للبعض منهم.

بالمقابل، يمكن لأطفال التوحد أن يتألقوا في مجالات أخرى، مثل:

  • الأعمال اليدوية والفنية
  • أعمال الكمبيوتر والبرمجة
  • الفرز والتصنيف والتنسيق (مثل أعمال المكتبات والمستودعات)

ويعتمد نجاحهم في العمل بشكل كبير على:

- نظرة المجتمع وتقبّله لذوي اضطراب التوحد.

- مدى توافق العمل مع ميول الشخص وشغفه.

هل يمكن أن يتزوجوا؟

الزواج يتطلب مجموعة من الشروط التي ينبغي أن تتوفر في أي شخص، ولكن بالنسبة للشخص المصاب بالتوحد، هناك شروط إضافية يجب أخذها بعين الاعتبار، مثل:

  • القدرات المعرفية والإدراكية
  • القدرة على تحمل المسؤولية وتفهم ظروف الشريك
  • وجود وظيفة أو مصدر دخل ثابت

ومن المعروف حتى الآن أن غالبية الأشخاص المصابين بالتوحد، حتى أولئك الذين حصلوا على درجات علمية متقدمة مثل الماجستير أو الدكتوراه، لم يتزوجوا.

وقد يعود ذلك إلى التحديات الاجتماعية والعاطفية التي تصاحب هذا الاضطراب.

موضوع ذات صلة: ذواج ذوى الإعاقة الذهنية بين القبول والرفض 

نماذج اخترقت جدار التوحد: تمبل جراندين

في منتصف القرن الماضي، وتحديدًا في عام 1951، كانت هناك طفلة صغيرة تبلغ من العمر أربع سنوات، تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن تنطق بأي كلمة، وكانت دائمة الصراخ، تمضي وقتها في التحديق بالسقف، دون أن تُبدي أي تفاعل أو تواصل مع من حولها.

اصطحبتها والدتها إلى عدد من الأطباء، الذين شخصوا حالتها بأنها مصابة بالتوحد الشديد، وأوصوا الأم بوضعها في مؤسسة إيواء، مؤكدين أن الطفلة لن تتمكن من التعلم، ولا حتى من الكلام طوال حياتها.

لكن هذه الطفلة لم تكن عادية… لقد كانت تمبل جراندين.

تمبل جراندين أصبحت واحدة من أبرز النماذج العالمية التي اخترقت جدار التوحد، وتخطّت كل التوقعات:

  • حصلت على درجة الدكتوراه في علم الحيوان.
  • أصبحت أستاذة جامعية في جامعة ولاية كولورادو  Colorado State University
  • ألّفت عددًا من الكتب التي تصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا حول العالم في مجال التوحد.
  • أصبحت عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.

كل هذا الإنجاز تحقق رغم تأكيد الأطباء في طفولتها أن مستقبلها مظلم، وأنها لن تستطيع التعلم أو التفاعل مع الآخرين.

قصة تمبل جراندين تمثل مصدر إلهام وأمل حقيقي لكل أسرة لديها طفل مصاب بالتوحد، وتؤكد أن التشخيص لا يعني نهاية الحلم، بل ربما يكون بداية رحلة استثنائية من النجاح.

جوش نيوتين… قصة تحدٍ جديدة

جوش نيوتين، طفل بريطاني، تم تشخيصه في عمر الثالثة بأنه مصاب بالتوحد الشديد، وتوقع الأطباء أن يبقى عاجزًا عن الكلام وغير قادر على التواصل مع الآخرين، حيث كان دائم البكاء والصراخ ولا يُظهر أي تفاعل اجتماعي.

لكن ما حدث لاحقًا كان مفاجئًا بكل المقاييس.

فخلال ست سنوات فقط، وعند بلوغه التاسعة، خالف جوش كل التوقعات، وأصبح طفلًا متحدثًا، متفاعلًا، ومندمجًا مع الآخرين. التحق بمدرسة عادية، وواصل دراسته بشكل طبيعي، بل وتفوّق في ممارسة الرياضة والعزف على البيانو، بمهارة فائقة وإحساس مرهف.

وجوش ليس حالة فريدة، بل هناك العديد من القصص المشابهة لأشخاص من ذوي اضطراب التوحد، تحسن أداؤهم التواصلي والاجتماعي والتعليمي والمهني بشكل كبير، حتى أنهم فاجأوا المحيطين بهم بمستوى تقدمهم.

كيف يمكن تفسير هذه الحالات؟

إذا كانت معظم الدراسات والأبحاث تشير إلى أنه لا يوجد شفاء تام من اضطراب التوحد، فكيف يمكن تفسير هذه القصص التي يبدو أن أصحابها قد تجاوزوا التوحد تمامًا؟

وكيف استطاع بعضهم تحقيق تطور مذهل لم يكن متوقعًا حتى من أقرب الناس إليهم، ولا حتى من الأطباء المختصين؟

للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نُدرك عدة أمور:

أطفال التوحد مثلهم مثل غيرهم من البشر لديهم القدرة على التعلم، والتعلّم يغير بنية الدماغ ووظائفه. فكلما تعرضوا لمواقف تعليمية فعّالة، كلما حدث تطور إيجابي في أدمغتهم.

الأنشطة مثل الرياضة والموسيقى، والتي غالبًا ما يُقبل عليها الأطفال التوحديون، تُساهم في تحسين أداء الدماغ وتعزيز قدراتهم الإدراكية والحسية.

يذهب بعض الباحثين إلى أن بعض الأشخاص من ذوي التوحد، نتيجة تلقيهم علاجًا مكثفًا ودعمًا مستمرًا، يتمكنون من تعلم استراتيجيات وسلوكيات تساعدهم على تجاوز أعراض التوحد أو حتى إخفائها في بعض المواقف.

ولهذا، فإن ما نراه من تطور غير متوقع في بعض الحالات ليس سحرًا، بل هو نتيجة لسنوات من الجهد والعلاج والتعليم والدعم المكثف.

كيف نحسّن مستقبل أطفال التوحد؟

خلاصة القول، ونصيحتي الصادقة لكل أبٍ وأم لطفل مصاب بالتوحد:

إذا كنتم تريدون مستقبلاً أفضل لأطفالكم، فعليكم أن تبدأوا من الآن، وتتخذوا الخطوات التالية بجدية واستمرار:

1- الاكتشاف والتدخل المبكر

كلما كان التشخيص مبكرًا، كلما كانت فرص تحسين المهارات وتخفيف الأعراض أكبر.

2- العلاج المكثف والدعم المستمر

النتائج الإيجابية لا تأتي من جلسة أو اثنتين، بل من برامج علاجية مستمرة وشاملة تتنوع بين السلوكية والتعليمية والنفسية.

3- الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية

لا تقتصر الرعاية على الجانب التعليمي فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا التغذية، والنوم، والراحة النفسية.

4- التعاون والتنسيق مع الأخصائيين والمعنيين

كونوا دائمًا على تواصل مع أخصائيي النطق، السلوك، التعليم، والإرشاد النفسي، فهم شركاؤكم في بناء مستقبل الطفل.

5- المطالبة بالحقوق والمشاركة المجتمعية

خططوا وساهموا في الحصول على كل ما يستحقه طفلكم من خدمات طبية وتعليمية واجتماعية وترفيهية.

6- بناء شبكة دعم من أسر مشابهة

تواصلوا مع أسر أخرى لديها أطفال توحد، فمشاركة الخبرات والتجارب تفتح أبوابًا للحلول، وتمنحكم الأمل والقوة.

إن تحسين مستقبل أطفال التوحد ليس أمرًا مستحيلاً، بل هو رحلة تتطلب إيمانًا بالطفل، وصبرًا عليه، وجهدًا حقيقيًا من كل من حوله.

اقرأ ايضا: كيف أعرف أن حالة ابنى توحد كاذب 

google-playkhamsatmostaqltradent